حفار القبور Poem by بدر شاكر السياب

حفار القبور

ضوء الأصيل يغيم كالحلم الكئيب على القبور
واه كما ابتسم اليتامى أو كما بهتت شموع
في غيهب الذكرى يهوم ظلهن على دموع
والمدرج النائي تهب عليه أسراب الطيور
كالعاصفات السود كالأشباح في بيت قديم

برزت لترعب ساكنيه
من غلرفة ظلماء فيه
وتثاءب الطلل البعيد يحدق الليل البهيم
من بابه الأعمى ومن شباكه الخرب البليد
والجو يملؤه النعيب
فتردد الصحراء في يأس واعوال رتيب
أصداءه المتلاشيات
والريح تذروهن في سأم على التل البعيد
وكأن بعض الساحرات
مدت أصابعها العجاف الشاحنات الى السماء
تومي الى سرب من الغربان تلويه الرياح
في آخر الأفق المضاء
حتى تعال ثم فاض على مراقيه الفساح
فكأن ديدان القبور

فارت لتلتهم الفضاء وتشرب الضوء الغريق
وكأنما أزف النشور
فاستيقظ الموتى عطاشى يلهثون على الطريق
وتدفع السرب الثقيل
يطفو ويرسب في الأصيل
لجبا يرنق بالظلام على القبور الباليات
وظلاله السوداء تزحف كالليالي الموحشات
بين الجنادل والصخور
وعلى القبور
وتنفس الضوء الضئيل
بعد اختناق بالطيوف الراعبات وبالجثام
ثم ارتخت تلك الظلال السود وانجاب الظلام
فانجاب عن ظل طويل
يلقيه حفار القبور

كفان جامدتان أبرد من جباه الخاملين وكأن جولهما هواء كان في بعض اللحود
في مقلة جوفاء خاوية يهوم في ركود كفان قاسيتان جائعتان كالذئب السجين
وفم كشق في جدار

مستوحد بين الصخور الصم من أنقاض دار
عند المساء ومقلتان تحدقان بلا بريق
وبلا دموع في الفضاء
هو ذا المساء
يدنو وأشباح النجوم تكاد تبدو والطريق
خال فلا نعش يلوح على مداه ولا عويل
الا النعيب
وتنهد الريح الطويل

وعلام تنعب هذه الغربان والكون الرحيب باق يدور يعج بالأحياء مرضى جائعين
بيض الشعور كأعظم الأموات لكن خالدين لا يهلكون علام تنعب ان عزرائيل مات
وغدا أموت غدا أموت
وهز حفار القبور
يمناه في وجه السماء وصاح رب أما تثور
فتبيد نسل العار تحرق بالرجوم المهلكات
أحفاد عاد باعة الدم والخطايا والدموع
يا رب ما دام الفناء
هو غاية الأحياء فأمر يهلكوا هذا المساء
سأموت من ظماء وجوع
ان لم يمت هذا المساء الى غد بعض الأيام
فابعث به قبل ااالظلام

يا رب أسبوع طويل مر كالعام الطويل والقبر خاو يفغر الفم في انتظار في انتظار
ما زلت أحفرةه وبطمر الغبار تتثاءب الظلماء فيه ويرشح القاع البليل
مما تعصر أعين الموتى وتنضحه الجلود تلك الجلود الشاحبات وذلك اللحم النثير
حتى الشفاءه يمص من دمها الثرى حتى النهود تذوي ويقطر في ارتخاء من مراضعها المغير
واها لهاتيك النواهد والمآقي والشفاه واها لأجساد الحسان أيأكل الليل الرهيب
والدود منها ما تمناه الهوى واخيبتاه كم جثة بيضاء لم تفتضها شفتا حبيب
هل كان عدلا أن أحن إلى السراب و لا أنال إلا الحنين و ألف أنثى تحت أقدامي تنام
أفكلما اتقدت رغاب في الجوانح شح مال ما زلت أسمع بالحروب فأين أين هي الحروب
أين السنابك و القذابف و الضحايا في الدروب

لأظل أدفنها فلا تسع الصحارى
فأدس في قمم التلال عظامهن و في الكهوف
فكأن قعقهة المنازل في اللظى نقر الدفوف
أو وقع أقدام العذارى

يرقص حولي لا عبات بالضصنوج و بالسيوف نبئت عن حرب تدور لعل عزرائيل فيها
في الليل يكدح و النهار فلن يمر على قرانا أو بالمدينة و هي توشك أن تضيق بساكنيها
نبئت أن القاصفات هناك ما تركت مكانا إلا وحل به الدمار فأي سوق للقبور
حتى كأن الأرض من ذهب يضاحك حافريها حتى كأن معاصر الدم دافقات بالخمور
أواه لو أني هناك أسد باللحم النثير جوع القبور و جوع نفسي في بلاد ليس فيها
إلا أرامل أو عذارى غاب عنهن الرجال وافتضهن الفاتحون إلى الذماء كما يقال
مازلت أسمع بالحروب فما لأعين موقديها لا تستقر على قرانا ليت عيني تلتقيها
و تخضهن إلى القرار و كالنيازك و الرعود تهوي بهن على النخيل على الرجال على المهود
حتى تحدق أعين الموتى كآلاف اللآلي من كل شبر في المدينه ثم تنظم كالعقود
في هذه الأرض الخراب فيا لأعينها و يا لي رباه إني أقشعر أكاد أسمع في الخيال
أغنية تصف العيون

تنثال من مقهى فأنصت في الزحام و ينصتون و كأن ما بيني و بين الآخرين من الهواء
ثدي سخي بالحليب و بالمحبة و الأخاء يا رب أسبوع يمر و لست أسمع من غناء
إلا النعيب
و تنهد الريح الرتيب

واخيبتاه ألن أعيش بغير موت الآخرين و الطيبات من الرغيف إلى النساء إلى البنين
هي منة الموتى علي فكيف أشفق بالأنام فلتمطرنهم القذائف بالحديد و بالضرام
و بما تشاء من انتقام

من حميات أو جذام
نذر علي لئن تشب لازرعن من الورود
ألفا تروى بالدماء و سوف أرصف بالنقود
هذا المزار وسوف أركض في الهجير بلا حذاء
و أعد أحذية الجنود
و أخط في وحل الرصيف وقد تلطخ وقد تلطخ بالدماء
أعدادهن لأستبيح عدادهن من النهود
و سأدفن الطفل الرمي و أطرح الأم الحزينة
بين الصخور على ثراه
و لسوف أغرز بين ثدييها أصابعي اللعينة
و يكاد يحنقها لهاثي و هي تسمع في لظاه
قلبي ووسوسة النقود نقودها و اخجلتاه
أنا لست أحقر من سواي و إن قسوت فلي شفيع
أني كوحش في الفلاء
لم أقرأ الكتب الضخام و شافعي ظمأ و جوع
أو ما ترى المتحضرين

المزدهين من الحديد بما يطير و ما يذيع مهما ادنأت فلن أسف كما أسفوا لي شفيع
أني نويت و يفعلون و إن من يئد البنين و الأمهات و يستحل دم الشيوخ العاجزين
لأحط من زان انتهك الغزاة و ما استباحوا و القاتلون هم الجناه و ليس حفار القبور
و هم الذين يلونون لي البغايا بالخمور و هم المجاعة و الحرائق و المذابح و النواح
و هم الذين سيتركون أبي وعمته الضريره بين الخرائب ينبشان ركامهن عن العظام
أو يفحصان عن الجذور و يلهثان من الأورام

و الصخر كالمقل الضريرة
و سيوثقون بشسعر أختي قبضتي و كالظلام و كخضة الحمى تسمرها على دمها صدور
تعلو و تهبط باللهاث كأنهن رحى تدور يا مجرمون إلى الوراء فسوف تنتفض القبور
و تقيء موتاها و يا موتي على اسم الله ثورا رباه عفوك إن قابيل المكبل بالحديد
في نفسي الظلماء هب وقر يعصره الملال

فالليل جاء و ما أزال
مستوحدا أرعى القبور و أنفض الدرب البعيد
و كأن يا بشرى كأن هناك في أقصى الجنوب
خطا كأذيال الظلام و لمعة كدم الغروب
لكأنه ضيف جديد

و بدا الجناز و راح يشهق و هو يدنو في ارتخاء
الأوجه المتحجرات يضيئها الشفق الكئيب
و الغمغمات الخافتات من انفعال أو رياء
و النعش يحجبه غطاء
ألوانه المترنحات كأنما اعتصر المغيب فيها قواه و ذاب فيها كوكب واهي الضياء
حتى إذا انهال التراب و صفح القبر الجديد و تراعش الألق الضئيل على الظهور المتعبات
حتى اضمحل و غيبتها ظلمة الأفق البعيد كانت مصابيح السماء تذر ضوءا كالضباب
بين القبور الموحشات

و على الخرائب و الرمال و كان حفار القبور
متعثر الخطوات يأخذ دربه تحت الظلام
يرعى مصابيح المدينه و هي تخفق في اكتئاب
وز يظل يحلم بالنساء العاريات و بالخمور
و تحسست يده النقود و هيأ الفم لابتسام
حتى تلاشى في الظلام
-2- النور ينضح من نوافذ حانه عبر الطريق
و تكاد رائحة الخمور
تلقى على الضوء المشبع بالدخان و بالفتور
ظلا كألوان حيارى واهيات من حريق
ناء توهم في الدجى الضافي على وجه حزين
و تلوح أشباح عجاف
خلف الزجاج تهيم في الضوء السرابي الغريق
و يشد حفار القبور على الزجاجة باليمين
و كمن يحاذر أو يخاف

يرنو إلى الدرب المنقط بالمصابيح الضئال و تحركت شفتاه في بطء و غمغم في انخذال
أظننت أنك سوف تقتحم المدينه كالغزاه كالفاتحين و تشتريها بالذي ملكت يداك
بأقل من ثمن الطلاء القرمزي على شفاه أو في أظافر لاحقتها ذات يوم مقلتاك
سأعود لانهد تعصره يدي حتى الذهول حتى التأوه و الأنين و صرخة الدم في العروق
و السكرة العمياء و الخدر المضعضع و الأفول و الأذرع المتفترات يلون الضوء الخفوق
هزاتها المستسلمات و ينفح الدم و العبير

ظل لهن على السرير
الأذرع المتفترات و زهرتان على الوساد
نسجتهما كف مخضبة الأظافر زهرتان
تتفتحان على الوسادة كالشفاه و تهمسان
نغما يذوب إلى رقاد

و تألق الجيد الشهي و لفحة النفس البهير و النور منفلتا من ال|أهداب تثقله الطيوب
قلقا كمصباح السفينه راوحته صبا لعوب و تخافق الأظلال في دعة ووسوسة الحرير
و الحلمتان أشد فوقهما بصدري في اشتهاء حتى أحسهما بأضلعي و أعتصر الدماء
باللحم و الدم و الحنايا منهما لا باليدين حتى تغيبا في صدري إلى غير انتهاء
حتى تمصا من دماي و تلفظاني في ارتخاء

فوق السرير
و تشرئبا
ثم نثوي جثتين
لولا التماعات الكواكب و انعكاس من ضياء تلقيه نافذة ووقع خطى تهاوى في عياء
يصدى له الليل العميق و حارس تعب يعود و سنان يحلم بالفراش و زوجه تذكي السراج
و تؤجج التنور صامته و أخيلة اللهيب تضفي عليها ما تشاء من اكتئاب و ابتهاج
ثم اضمحل الحارس المكدود و النغم الرتيب وقع الخطى المتلاشيات كأنه الهمس المريب
ما زال يخفق من بعيد

و تململت قدمان و ارتفعت يد بعد انتظار
و هوت على الباب العتيق فأرسل الخشب البليد
صوتا كإيقاع المعاول حين إدبار النهار
بين القبور الموحشات و أطبق الصمت الثقيل
و أطل من إحدى النوافذ و هي تفتح و ارتياب
وجه حزين ثم غاب
و تحرك الباب المضعضع و هو يجهش بالعويل
و تقول أنثى في اكتئاب
ضيف جديد ثم تفرك مقلتيها في فتور
و يظل يزحف كالكسوف يحجب الألق الضئيل
عن وجهها ظل يقيدها بحفار القبور

-4-
في زهوة الشفق الملون حيث يحترق النهار
في عودة الرعيان أشباحا يظللها الغبار
في ساعة الشوق الكئيب إلى شواطيء كالضباب
و إلى أكف مخلصات
و إلى أغان مبهمات هائمات في شعاب
أنأى من الأصداء تغشاها نجوم ساهمات
في ساعة الشفق الملون كان إنسان يثور
بين الجنادل و القبور
نفس معذبه تثور
بين الجنادل و القبور

أأظل أحلم بالنعوش و أنفض الدرب البعيد بالنظرة الشزراء و اليأس المظلل بالرجاء
يطفو و يرسب و السماء كأنها صنم بليد لا مأمل في مقلتيه و لا شواظ و لا رثاء
لو أنها انفجرت تقهقه بالرعود القاصفات لو أنها انكمشت وصاحت كالذئاب العاويات
فات الأوان فخط لحدك واثو فيه إلى النشور لو أنها انطبقت علي كأنها فم أفعوان
لو أنها اعتصرت قواي

و مات ظل الأرجوان

في آخر الأفق البعيد و لألأت قطرات نور مما تبعثره المدينة و هي تبسم في فتور
و كأنما رضعت مصابيح المدينة مقلتاه فسرت لهيبا في دماه و ألغمتها بالرغاب
و كأنهن على المدى المقرور آلاف الشفاه تدعوه ظمأى لاهثات مثل أحداق الذئاب
ما زلت تحترقين من فرح و أحتراق انتظار
أنا انتهينا
يا سماء و يا قبور أما أراها

لا بد من هذا وصوب مقلتيه إلى السماء حنقا يزمجر ثم أطرق و هو يحلم بالقاء
باب تفتح في الظلام و ضحكة و شذى ثقيل ويدان تجتذبان أغطية السرير و ترخيان
إحدى الستائر
ثم تنطفئان في الضوء الضئيل
و تغيم أخيلة و تجلى ثم تبرز حلمتان
ويطل وجه شاحب القسمات مختلج الشفاه
و تغيم أخيلة و تحلى ثم تفتح مقلتاه
فيرى القبور
و يرى المصابيح البعيدة كالمجامر في اتقاد
و يرى الطريق إلى القبور
يكتظ بالأشباح زاحفة إليه على اتئاد فيصيح من فرح سألقاها فإن الطريق
نعشا و إن حف النساء به و أملق حاملوه إني سألقاها و ينهض و هو يرفع باليمين
فانوسة الصدىء العتيق

يلقي سناه على الوجوه
و على الدثار القرمزي و في عيون القادمين
لو أنه اخترق الدثار بمقلتيه و بالضياء
لو حدث التابوت عمن فيه أو رفعت يداها
أو هبة للزعزع النكباء حاشية الغطاء
تحت النجوم الساهمات
لكاد ينكر من رآها
و تظل أنوار المدينة و هي تلمع من بعيد
و يظل حفار القبور
ينأى عن القبر الجديد
معتثر الخطوات يحلم باللقاء و بالخمرو

COMMENTS OF THE POEM
READ THIS POEM IN OTHER LANGUAGES
Close
Error Success